سفاري سراييفو

 

 

الطليعة الشحرية

لم يعد القتل فعلًا يولد في ساحات الصراع وحدها؛ بل صار في بعض تجليات عصرنا سلعة تُقتنى، وتجربة تُسوَّق، ورغبة تُلبّى لمن يملك الثمن، في محطات مُعيّنة من التاريخ، تنكشف أمامنا حقائق موجعة عن الإنسان، حقائق لا تكشفها الحروب وحدها؛ بل تكشفها أيضًا تلك المناطق الرمادية التي تتقاطع فيها الرغبة مع المال والسلطة في غياب القانون والضمير.

في هذه المناطق تولد أكثر الظواهر قسوة، وفي مقدمتها ظاهرة تسليع القتل؛ أي تحويل موت البشر إلى سلعة مدفوعة، وتجربة تُشترى، أو "خدمة" تُعرض في سوق سوداء تُباع فيها أرواح الضعفاء بأثمان تُحددها شهوة المغامرة ورغبة المُتعة.

الحرب، مهما اشتدّ عنفها، غالبًا ما تُغلَّف بخطابات وطنية أو دفاعية تبرر جزءًا من بشاعتها. أما حين يتحوّل القتل إلى ترف مدفوع، فإننا ننتقل من منطق الحرب إلى منطق السوق؛ حيث تتراجع إنسانية الفرد، وتختفي هويته، ويصبح مجرّد "هدف" يمكن تصويبه، لا فرق إن كان طفلًا أو امرأة أو مسنًا، ما دام من يدفع الثمن يبحث عن إثارة قصوى، في تلك اللحظة لا تعود الحياة قيمة؛ بل تتحول إلى رقم في معادلة الربح والخسارة. وهذه الحقيقة الصادمة لم تعد اليوم افتراضًا نظريًا.

الفيلم الوثائقي السلوفيني "سفاري سراييفو" (Sarajevo Safari) فتح نافذة مُخيفة على مرحلة من حصار سراييفو في تسعينيات القرن الماضي؛ حيث يطرح الفيلم روايات تشير إلى أنَّ بعض الأثرياء الأجانب- بينهم إيطاليون- كانوا يدفعون مبالغ باهظة ليُسمح لهم بالانضمام إلى مواقع القنّاصة الصرب، وإطلاق النَّار على المدنيين؛ باعتبار ذلك "تجربة فريدة". ورغم أنَّ هذه الروايات ظلّت لسنوات تُصنَّف بوصفها "حكايات حرب"، فإنها اليوم تتحول إلى قضية قانونية مفتوحة بعد أن باشرت النيابة العامة في ميلانو تحقيقًا رسميًا في الموضوع، بناءً على شكوى مدعومة بشهادات ووثائق أولية.

فتح هذا التحقيق الإيطالي- الأول من نوعه- نقاشًا واسعًا حول البعد الأخلاقي للادعاءات: هل يمكن فعلًا أن يتحوّل موقع قنّاص إلى وجهة سياحية؟ هل وصلت قسوة الإنسان إلى حدّ شراء "حق القتل" كما تُشترى تذاكر السفر أو رحلات السفاري؟ وما الذي يقوله ذلك عن عصرنا وحضور القيم فيه؟ والسؤال الأهم هل شهدت فلسطين المُحتلة رحلات "سفاري غزة" على غرار سراييفو؟

تكشف روايات "سفاري سراييفو "عن بُعد خطير في النفس البشرية حين تختلط الثروة بالامتياز الاجتماعي وبقايا العقلية الاستعمارية. فبعض الأثرياء الأوروبيين- كما تصوّرهم الشهادات التي تناولها الوثائقي- لم يبحثوا عن خبرة حرب أو تجربة ميدانية فحسب؛ بل عن مُتعة مستمدة من انتفاخ الذات البيضاء وشعور بالتفوُّق يمنح صاحبه وهمًا بالسلطة المُطلقة على أجساد آخرين عُدّوا في مخياله "أدنى" قيمة. في مثل هذه الذهنية، يصبح الضحايا- إذا كانوا من شعوب مقهورة أو من أقليات مُلوّنة أو من جماعات لا تتمتع بحماية النخبة الدولية- أهدافًا "مُستسلِمة"، يمكن تحويل حياتهم إلى لعبة قاتلة بلا تبكيت ضمير.

وهنا يظهر سؤال أخلاقي لا يمكن تجاهله: لماذا لم نسمع عن "سفاري قنص" في ساحات حرب أوروبية كأوكرانيا، رغم أنَّها حرب مفتوحة وواسعة النطاق؟

الجواب لا يكمُن في اختلاف جغرافي أو عسكري؛ بل في اختلاف موقع الضحية في الوعي الغربي؛ فحين يكون الضحية أبيض، شبيهًا بالفاعل في اللون والملامح والخلفية الثقافية، تتفعل آليات الحماية والتعاطف، وتنهار تلقائيًا أي فرصة لتحويله إلى مادة للمُتعة أو إلى فريسة يمكن العبث بمصيرها. أما حين يكون الضحايا من خارج دائرة "الذات البيضاء"، يُصبح نزع الإنسانية أسهل، وتصبح الجرائم أكثر قابليّة للتبرير أو الإخفاء أو التجاهل.

بهذا المعنى، لا تكشف ظاهرة "سفاري سراييفو"- إنْ صحَّت- عن شذوذ فردي بقدر ما تكشف عن موروث من اللامساواة الإنسانية؛ حيث لا تُقاس قيمة الضحايا بمعايير موحدة؛ بل بمعايير يحددها اللون والعرق والقرب الثقافي من مركز القوة.

إنها مرآة تعكس هشاشة الأخلاق حين تُترك للامتياز الطبقي والهيمنة العرقية كي تعيد تعريف معنى الحياة ومعنى الموت، ومن يستحق التعاطف، ومن يمكن تحويله إلى هدف.

وتسليع القتل ليس انحرافًا فرديًا فحسب؛ بل هو انعكاس لخلل حضاري عميق. فعندما يُسمح للمال أن يُحدد قيمة الحياة، يصبح الإنسان قابلًا للاستهلاك، وتصبح الحرب فرصة استثمارية، ويغدو الألم مادّة للتجربة، ومن هنا يبرز دور الإعلام المُعوْلَم الذي يملك القدرة على تطبيع العنف، وعلى تحويل المأساة إلى صورة عابرة، لا تُثير سوى لحظة اندهاش قبل أن تُستبدل بأخرى. وبهذا التراكم، تتآكل الحدود الأخلاقية، وتتلاشى القيم الإنسانية التي يفترض أن تحمي حياة البشر من الانحدار إلى مجرد "خدمة مدفوعة".

وسط هذا المشهد القاتم، لا يقتصر السؤال على؛ هل حدثت حقًا "سياحة قنص" في سراييفو؟ السؤال الأعمق هو؛ كيف وصل العالم إلى درجة تسمح بإمكانية حدوث ذلك؟ ومن المسؤول عن صناعة الظروف التي يتراجع فيها الضمير إلى هذا الحد؟ وهل نملك الشجاعة لمواجهة هذا الانحدار قبل أن يتكرر في ساحات أخرى؟

التحقيق الإيطالي خطوة مهمّة، لكنه ليس سوى بداية طريق طويل؛ فالمعركة الحقيقية ليست في قاعات المحكمة؛ بل في قدرة المجتمع الدولي على إعادة الاعتبار لقيمة الإنسان، وعلى رفض إدخال الموت في معادلة السوق. ومواجهة تسليع القتل تبدأ بتسمية الأشياء بأسمائها؛ فهذا الفعل ليس مُغامرة، ولا ترفيهًا، ولا رياضة؛ بل سقوط أخلاقي كامل يجب أن يواجه بالقانون والوعي والرفض الصريح.

قد يموت الناس برصاصة، لكن الإنسانية تموت بالصمت. وما يحمي العالم من الانهيار ليس حجم جيوشه ولا قوّة اقتصاده؛ بل وجود خطوط أخلاقية واضحة نقف عندها ونقول: هنا ينتهي العبث وهنا تبدأ الإنسانية.

الأكثر قراءة

z